الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرطبي المسمى بـ «الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان» **
{ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين} روى ابن جريج عن مجاهد قال: نزلت أربع آيات من سورة البقرة في المؤمنين، واثنتان في نعت الكافرين، وثلاث عشرة في المنافقين. و روى أسباط عن السدي في قوله{ومن الناس قال: هم المنافقون. وقال علماء الصوفية: الناس اسم جنس، واسم الجنس لا يخاطب به الأولياء. واختلف النحاة في لفظ الناس، فقيل: هو اسم من أسماء الجموع، جمع إنسان وإنسانة، على غير اللفظ، وتصغيره نويس. فالناس من النوس وهو الحركة، يقال: ناس ينوس أي تحرك، ومنه حديث أم زرع أناسَ من حُليٍّ أذني . وقيل: أصله من نسي، فأصل ناس نسي قلب فصار نيس تحركت الياء فانفتح ما قبلها فانقلبت ألفا، ثم دخلت الألف واللام فقيل: الناس. قال ابن عباس: نسي آدم عهد الله فسمي إنسانا. وقال آخر: وقيل: سمي إنسانا لأنسه بحواء. وقيل: لأنسه بربه، فالهمزة أصلية، قال الشاعر: لما ذكر الله جل وتعالى المؤمنين أولا، وبدأ بهم لشرفهم وفضلهم، ذكر الكافرين في مقابلتهم، إذ الكفر والإيمان طرفان. ثم ذكر المنافقين بعدهم وألحقهم بالكافرين قبلهم، لنفي الإيمان عنهم بقوله الحق{وما هم بمؤمنين}. ففي هذا رد على الكرَّامية حيث قالوا: إن الإيمان قول باللسان وإن لم يعتقد بالقلب، واحتجوا بقوله تعالى قال علماؤنا رحمة الله عليهم: المؤمن ضربان: مؤمن يحبه الله ويواليه، ومؤمن لا يحبه الله ولا يواليه، بل يبغضه ويعاديه، فكل من علم الله أنه يوافي بالإيمان، فالله محب له، موال له، راض عنه. وكل من علم الله أنه يوافي بالكفر، فالله مبغض له، ساخط عليه، معاد له، لا لأجل إيمانه، ولكن لكفره وضلاله الذي يوافي به. والكافر ضربان: كافر يعاقب لا محالة، وكافر لا يعاقب. فالذي يعاقب هو الذي يوافي بالكفر، فالله ساخط عليه معاد له. والذي لا يعاقب هو الموافي بالإيمان، فالله غير ساخط على هذا ولا مبغض له، بل محب له موال، لا لكفره لكن لإيمانه الموافي به. فلا يجوز أن يطلق القول وهي: - بأن المؤمن يستحق الثواب، والكافر يستحق العقاب، بل يجب تقييده بالموافاة، ولأجل هذا قلنا: إن الله راض عن عمر في الوقت الذي كان يعبد الأصنام، ومريد لثوابه ودخوله الجنة، لا لعبادته الصنم، لكن لإيمانه الموافي به. وإن الله تعالى ساخط على إبليس في حال عبادته، لكفره الموافي به. وخالفت القدرية في هذا وقالت: إن الله لم يكن ساخطا على إبليس وقت عبادته، ولا راضيا عن عمر وقت عبادته للصنم. وهذا فاسد، لما ثبت أن الله سبحانه عالم بما يوافي به إبليس لعنه الله، وبما يوافي به عمر رضي الله عنه فيما لم يزل، فثبت أنه كان ساخطا على إبليس محبا لعمر. ويدل عليه إجماع الأمة على أن الله سبحانه وتعالى غير محب لمن علم أنه من أهل النار، بل هو ساخط عليه، وأنه محب لمن علم أنه من أهل الجنة، وقد قلت: هذا كما ثبت في صحيح مسلم وغيره فقد قلت: وهذا الحديث وإن كان سنده ليس بالقوي فإن معناه صحيح وليس بمعارض لحديث ابن مسعود، فإن ذلك موقوف على الخاتمة، قال علماء اللغة: إنما سمي المنافق منافقا لإظهاره غير ما يضمر، تشبيها باليربوع، له جحر يقال له: النافقاء، وآخر يقال له: القاصعاء. وذلك أنه يخرق الأرض حتى إذا كاد يبلغ ظاهر الأرض أرق التراب، فإذا رابه ريب دفع ذلك التراب برأسه فخرج، فظاهر جحره تراب، وباطنه حفر. وكذلك المنافق ظاهره إيمان، وباطنه كفر، وقد تقدم هذا المعنى. {يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون} قال علماؤنا: معنى {يخادعون الله} أي يخادعونه عند أنفسهم وعلى ظنهم. وقيل: قال ذلك لعملهم عمل المخادع. وقيل: في الكلام حذف، تقديره: يخادعون رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن الحسن وغيره. وجعل خداعهم لرسوله خداعا له، لأنه دعاهم برسالته، وكذلك إذا خادعوا المؤمنين فقد خادعوا الله. ومخادعتهم: ما أظهروه من الإيمان خلاف ما أبطنوه من الكفر، ليحقنوا دماءهم وأموالهم، ويظنون أنهم قد نجوا وخدعوا، قاله جماعة من المتأولين. وقال أهل اللغة: أصل المخدع في كلام العرب الفساد، حكاه ثعلب عن ابن الأعرابي. وأنشد: قلت: فـ {يخادعون الله} على هذا، أي يفسدون إيمانهم وأعمالهم فيما بينهم وبين الله تعالى بالرياء. وكذا جاء مفسر عن النبي صلى الله عليه وسلم على ما يأتي. وفي التنزيل قوله تعالى{وما يخدعون إلا أنفسهم} نفي وإيجاب، أي ما تحل عاقبة الخدع إلا بهم. ومن كلامهم: من خدع من لا يخدع فإنما يخدع نفسه. وهذا صحيح، لأن الخداع إنما يكون مع من لا يعرف البواطن، وأما من عرف البواطن فمن دخل معه في الخداع فإنما يخدع نفسه. ودل هذا على أن المنافقين لم يعرفوا الله إذ لو عرفوه لعرفوا أنه لا يخدع، وقد تقدم من قوله تعالى{وما يشعرون} أي يفطنون أن وبال خدعهم راجع عليهم، فيظنون أنهم قد نجوا بخدعهم وفازوا، وإنما ذلك في الدنيا، وفي الآخرة يقال لهم {في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون} قوله تعالى{في قلوبهم مرض} ابتداء وخبر. والمرض عبارة مستعارة للفساد الذي في عقائدهم. وذلك إما أن يكون شكا ونفاقا، وإما جحدا وتكذيبا. والمعنى: قلوبهم مرضى لخلوها عن العصمة والتوفيق والرعاية والتأييد. قال ابن فارس اللغوي: المرض كل ما خرج به الإنسان عن حد الصحة من علة أو نفاق أو تقصير في أمر. والقراء مجمعون على فتح الراء من {مرض} إلا ما روى الأصمعي عن أبي عمرو أنه سكن الراء. قوله تعالى{فزادهم الله مرضا} قيل: هو دعاء عليهم. ويكون معنى الكلام: زادهم الله شكا ونفاقا جزاء على كفرهم وضعفا عن الانتصار وعجزا عن القدرة، كما قال الشاعر: أي لا تهدها على الانتصار فيما غضبت منه. وعلى هذا يكون في الآية دليل على جواز الدعاء على المنافقين والطرد لهم، لأنهم شر خلق الله. وقيل: هو إخبار من الله تعالى عن زيادة مرضهم، أي فزادهم الله مرضا إلى مرضهم، كما قال في آية أخرى قوله تعالى{ولهم عذاب أليم} أليم في كلام العرب معناه مؤلم أي موجع، مثل السميع بمعنى المسمع، قال ذو الرمة يصف إبلا: وآلم إذا أوجع. والإيلام: الإيجاع. والألم: الوجع، وقد ألِم يألم ألما. والتألم: التوجع. ويجمع أليم على ألماء مثل كريم وكرماء، وآلام مثل أشراف. قوله تعالى قلت: وهذه غفلة من هذا الإمام، لأنه إن ثبت الإجماع المذكور فليس بمنتقض بما ذكر، لأن الإجماع لا ينعقد ولا يثبت إلا بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم وانقطاع الوحي، وعلى هذا فتكون تلك قضية في عين بوحي، فلا يحتج بها أو منسوخة بالإجماع. والله أعلم. القول الثالث: إنما لم يقتلهم مصلحة لتأليف القلوب عليه لئلا تنفر عنه، قلت: هذا الانفصال فيه نظر، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعلمهم أو كثيرا منهم بأسمائهم وأعيانهم بإعلام الله تعالى إياه، وكان حذيفة يعلم ذلك بإخبار النبي عليه السلام إياه حتى كان عمر رضي الله عنه يقول له: يا حذيفة هل أنا منهم؟ فيقول له: لا. {وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون} قوله إذا في موضع نصب على الظرف والعامل فيها قالوا ، وهي تؤذن بوقوع الفعل المنتظر. قال الجوهري إذا اسم يدل على زمان مستقبل، ولم تستعمل إلا مضافة إلى جملة، تقول: أجيئك إذا أحمر البسر، وإذا قدم فلان. والذي يدل على أنها اسم وقوعها موقع قولك: آتيك يوم يقدم فلان، فهي ظرف وفيها معنى المجازاة. وجزاء الشرط ثلاثة: الفعل والفاء وإذا، فالفعل قولك: إن تأتني آتك. والفاء: إن تأتني فأنا أحسن إليك. وإذا كقوله تعالى فعطف فنضارب بالجزم على كان لأنه مجزوم، ولو لم يكن مجزوما لقال: فنضارب، بالنصب. وقد تزاد على إذا ما تأكيدا، فيجزم بها أيضا، ومنه قول الفرزدق: قال سيبويه: والجيد ما قال كعب بن زهير: يعني أن الجيد ألا يجزم بإذا، كما لم يجزم في هذا البيت. وحكي عن المبرد أنها في قولك في المفاجأة: خرجت فإذا زيد، ظرف مكان، لأنها تضمنت جُثة. وهذا مردود، لأن المعنى خرجت فإذا حضور زيد، فإنما تضمنت المصدر كما يقتضيه سائر ظروف الزمان، ومنه قولهم اليوم خمر وغدا أمر فمعناه وجود خمر ووقوع أمر. قوله قيل من القول وأصله قَوِل، نقلت كسرة الواو إلى القاف فانقلبت الواو ياء. ويجوز قيلْ لّهم بإدغام اللام في اللام وجاز الجمع بين ساكنين، لأن الياء حرف مد ولين. قال الأخفش: ويجوز قيل بضم القاف والياء. وقال الكسائي: ويجوز إشمام القاف الضم ليدل على أنه لما لم يسم فاعله، وهي لغة قيس وكذلك جيء وغيض وحيل وسيق وسيء وسيئت. وكذلك روى هشام عن ابن عباس، وروي عن يعقوب. وأشم منها نافع سيء وسيئت خاصة. وزاد ابن ذكوان: حيل وسيق، وكسر الباقون في الجميع. فأما هذيل وبنود دبير من أسد وبني فقعس فيقولون قول بواو ساكنة. قوله{لا تفسدوا} لا نهي. والفساد ضد الصلاح، وحقيقته العدول عن الاستقامة إلى ضدها. فسد الشيء فسادا وفسودا وهو فاسد وفسيد. والمعنى في الآية: لا تفسدوا في الأرض بالكفر وموالاة أهله، وتفريق الناس عن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم والقران. وقيل: كانت الأرض قبل أن يبعث النبي صلى الله عليه وسلم فيها الفساد، ويفعل فيها بالمعاصي، فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم ارتفع الفساد وصلحت الأرض. فإذا عملوا بالمعاصي فقد أفسدوا في الأرض بعد إصلاحها، كما قال في آية أخرى قوله في الأرض الأرض مؤنثة، وهي اسم جنس، وكان حق الواحدة منها أن يقال أرضة، ولكنهم لم يقولوا. والجمع أرضات، لأنهم قد يجمعون المؤنث الذي ليست فيه هاء التأنيث بالتاء كقولهم: عرسات. ثم قالوا أرضون فجمعوا بالواو والنون، والمؤنث لا يجمع بالواو والنون إلا أن يكون منقوصا كثبة وظبة، ولهم جعلوا الواو والنون عوضا من حذفهم الألف والتاء وتركوا فتحة الراء على حالها، وربما سكنت. وقد تجمع على أروض. وزعم أبو الخطاب أنهم يقولون: أرض وآراض، كما قالوا: أهل وآهال. والأراضي أيضا على غير قياس، كأنهم جمعوا آرُضا. وكل ما سفل فهو أرض. وأرض أريضة، أي زكية بينة الأراضة. وقد أرِضت بالضم، أي زكت. قال أبو عمرو: نزلنا أرضا أريضة، أي معجبة للعين، ويقال: لا أرض لك، كما يقال: لا أم لك. والأرض: أسفل قوائم الدابة، قال حميد يصف فرسا: أي أثر والأرض: النفضة والرعدة. روى حماد بن سلمة عن قتادة عن عبدالله بن الحارث قال: زلزلت الأرض بالبصرة، فقال ابن عباس: والله ما أدري أزلزلت الأرض أم بي أرْض؟ أي أم بي رعدة، وقال ذو الرمة يصف صائدا: والأرض: الزكام. وقد آرضه الله إيراضا، أي أزكمه فهو مأروض. وفسيل مستأرض، وودية مستأرضة بكسر الراء وهو أن يكون له عرق في الأرض، فأما إذا نبت على جذع النخل فهو الراكب. والإراض بالكسر بساط ضخم من صوف أو وبر. ورجل أريض، أي متواضع خليق للخير. قال الأصمعي يقال: هو آرضهم أن يفعل ذلك، أي أخلقهم. وشيء عريض أريض إتباع له، وبعضهم يفرده ويقول: جدي أريض أي سمين. قوله نحن أصل نَحْن نَحُن قلبت حركة الحاء على النون وأسكنت الحاء، قاله هشام بن معاوية النحوي. وقال الزجاج نحن لجماعة، ومن علامة الجماعة الواو، والضمة من جنس الواو، فلما اضطروا إلى حركة نحن لالتقاء الساكنين حركوها بما يكون للجماعة. قال: لهذا ضموا واو الجمع في قوله عز وجل قوله تعالى{مصلحون} اسم فاعل من أصلح. والصلاح: ضد الفساد. وصلح الشيء بضم اللام وفتحها لغتان، قال ابن السكيت. والصلوح بضم الصاد مصدر صلح بضم اللام قال الشاعر: وصلاح من أسماء مكة. والصلح بكسر الصاد نهر. وإنما قالوا ذلك على ظنهم، لأن إفسادهم عندهم إصلاح، أي أن ممالأتنا للكفار إنما نريد بها الإصلاح بينهم وبين المؤمنين. قال ابن عباس وغيره. {ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون} قوله عز وجل{ألا إنهم هم المفسدون} ردا عليهم وتكذيبا لقولهم. قال أرباب المعاني: من أظهر الدعوى كذب، ألا ترى أن الله عز وجل يقول: ألا إنهم هم المفسدون وهذا صحيح. وكسرت إن لأنها مبتدأة، قال النحاس. وقال علي بن سليمان. يجوز فتحها، كما أجاز سيبويه: حقا أنك منطلق، بمعنى ألا. و هم يجوز أن يكون مبتدأ و{المفسدون} خبره والمبتدأ وخبره خبر إن . ويجوز أن تكون هم توكيدا للهاء والميم في إنهم . ويجوز أن تكون فاصلة - والكوفيون يقولون عمادا - و{المفسدون} خبر إن ، والتقدير ألا إنهم المفسدون، كما تقدم في قوله قوله تعالى{ولكن لا يشعرون} قال ابن كيسان يقال: ما على من لم يعلم أنه مفسد من الذم، إنما يذم إذا علم أنه مفسد ثم أفسد على علم، قال: ففيه جوابان: أحدهما - أنهم كانوا يعملون الفساد سرا ويظهرون الصلاح وهم لا يشعرون أن أمرهم يظهر عند النبي صلى الله عليه وسلم. والوجه الآخر: أن يكون فسادهم عندهم صلاحا وهم لا يشعرون أن ذلك فساد، وقد عصوا الله ورسوله في تركهم تبيين الحق واتباعه ولكن حرف تأكيد واستدراك ولا بد فيه من نفي وإثبات، إن كان قبله نفي كان بعده إيجاب، وإن كان قبله إيجاب كان بعده نفي. ولا يجوز الاقتصار بعده على اسم واحد إذا تقدم الإيجاب، ولكنك تذكر جملة مضادة لما قبلها كما في هذه الآية، وقولك: جاءني زيد لكن عمرو لم يجئ، ولا يجوز جاءني زيد لكن عمرو ثم تسكت، لأنهم قد استغنوا ببل في مثل هذا الموضع عن لكن، وإنما يجوز ذلك إذا تقدم النفي كقولك: ما جاءني زيد لكن عمرو. {وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون} قوله تعالى{وإذا قيل لهم} يعني المنافقين في قول مقاتل وغيره. {آمنوا كما آمن الناس} أي صدقوا بمحمد صلى الله عليه وسلم وشرعه، كما صدق المهاجرون والمحققون من أهل يثرب. وألف {آمنوا} ألف قطع، لأنك تقول: يؤمن، والكاف في موضع نصب، لأنها نعت لمصدر محذوف، أي إيمانا كإيمان الناس. قوله تعالى{قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء ألا إنهم هم السفهاء} يعني أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، عن ابن عباس. وعنه أيضا: مؤمنو أهل الكتاب. وهذا القول من المنافقين إنما كانوا يقولونه في خفاء واستهزاء فأطلع الله نبيه والمؤمنين على ذلك، وقرر أن السفه ورِقَّة الحُلوم وفساد البصائر إنما هي في حيزهم وصفة لهم، وأخبر أنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون للرين الذي على قلوبهم. و"روى الكلبي عن أبي صالح "عن ابن عباس أنها نزلت في شأن اليهود، أي وإذا قيل لهم - يعني اليهود - آمنوا كما آمن الناس: عبدالله بن سلام وأصحابه، قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء! يعني الجهال والخرقاء. وأصل السَّفَه في كلام العرب: الخفة والرقة، يقال: ثوب سفيه إذا كان رديء النسج خفيفه، أو كان باليا رقيقا. وتسفهت الريح الشجر: مالت به، قال ذو الرمة: وتسفهت الشيء: استحقرته. والسفه: ضد الحلم. ويقال: إن السفه أن يكثر الرجل شرب الماء فلا يروى. ويجوز في همزتي السفهاء أربعة أوجه، أجودها أن تحقق الأولى وتقلب الثانية واوا خالصة، وهي قراءة أهل المدينة والمعروف من قراءة أبي عمرو. وإن شئت خففتهما جميعا فجعلت الأولى بين الهمزة والواو وجعلت الثانية واوا خالصة. وإن شئت خففت الأولى وحققت الثانية. وإن شئت حققتهما جميعا. قوله تعالى{ولكن لا يعلمون} مثل {ولكن لا يشعرون}، وقد تقدم. والعلم معرفة المعلوم على ما هو به، تقول: علمت الشيء أعلمه علما عرفته، وعالمت الرجل فعلمته أعلمه بالضم في المستقبل غلبته بالعلم. {وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون} قوله تعالى{وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا} أنزلت هذه الآية في ذكر المنافقين. أصل لقوا: لقيوا، نقلت الضمة إلى القاف وحذفت الياء لالتقاء الساكنين. وقرأ محمد بن السميقع اليماني{لاقوا الذين آمنوا}. والأصل لاقيوا، تحركت الياء وقبلها فتحة انقلبت ألفا، اجتمع ساكنان الألف والواو فحذفت الألف لالتقاء الساكنين ثم حركت الواو بالضم. وإن قيل: لم ضمت الواو في لاقوا في الإدراج وحذفت من لقوا؟ فالجواب: أن قبل الواو التي في لقوا ضمة فلو حركت الواو بالضم لثقل على اللسان النطق بها فحذفت لثقلها، وحركت في لاقوا لأن قبلها فتحة. قوله تعالى{وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم} إن قيل: لم وصلت {خلوا} بـ {إلى} وعرفها أن توصل بالباء؟ قيل له{خلوا} هنا بمعنى ذهبوا وانصرفوا، ومنه قول الفرزدق: قد قتل الله زيادا عني لما أنزل منزلة صَرَف. وقال قوم{إلى} بمعنى مع، وفيه ضعف. وقال قوم{إلى} بمعنى الباء، وهذا يأباه الخليل وسيبويه. وقيل: المعنى وإذا خلوا من المؤمنين إلى شياطينهم، فـ {إلى} على بابها. والشياطين جمع شيطان على التكسير، وقد تقدم القول في اشتقاقه ومعناه في الاستعاذة. واختلف المفسرون في المراد بالشياطين هنا، فقال ابن عباس والسدي: هم رؤساء الكفر. وقال الكلبي: هم شياطين الجن. وقال جمع من المفسرين: هم الكهان. ولفظ الشيطنة الذي معناه البعد عن الإيمان والخير يعم جميع من ذكر. والله أعلم. قوله تعالى{إنما نحن مستهزئون} أي مكذبون بما ندعى إليه. وقيل: ساخرون. والهزء: السخرية واللعب، يقال: هزئ به واستهزأ، قال الراجز: وقيل: أصل الاستهزاء: الانتقام، كما قال الآخر: {الله يستهزئ بهم} أي ينتقم منهم ويعاقبهم، ويسخر بهم ويجازيهم على استهزائهم، فسمى العقوبة باسم الذنب. هذا قول الجمهور من العلماء، والعرب تستعمل ذلك كثيرا في كلامهم، من ذلك قول عمرو بن كلثوم: فسمى انتصاره جهلا، والجهل لا يفتخر به ذو عقل، وإنما قال ليزدوج الكلام فيكون أخف على اللسان من المخالفة بينهما. وكانت العرب إذا وضعوا لفظا بإزاء لفظ جوابا له وجزاء ذكروه بمثل لفظه وإن كان مخالفا له في معناه، وعلى ذلك جاء القرآن والسنة. وقال الله عز وجل {ويمدهم } أي يطيل لهم المدة ويمهلهم ويملي لهم، كما قال {في طغيانهم} كفرهم وضلالهم. وأصل الطغيان مجاوزة الحد، ومنه قوله تعالى تابع {يعمهون} يعمون. وقال مجاهد: أي يترددون متحيرين في الكفر. وحكى أهل اللغة: عَمِه الرجل يعمه عموها وعمها فهو عمه وعامه إذا حار، ويقال رجل عامه وعمه: حائر متردد، وجمعه عُمّه. وذهبت إبله العُمّهى إذا لم يدر أين ذهبت. والعمى في العين، والعمه في القلب، وفي التنزيل {أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين} قوله تعالى{أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى} قال سيبويه: ضمت الواو في {اشتروا} فرقا بينها وبين الواو الأصلية، نحو وأصل الضلالة: الحيرة. ويسمى النسيان ضلالة لما فيه من الحيرة، قال له جل وعز قوله تعالى{فما ربحت تجارتهم } أسند تعالى الربح إلى التجارة على عادة العرب في قولهم: ربح بيعك، وخسرت صفقتك، وقولهم: ليل قائم، ونهار صائم، والمعنى: ربحت وخسرت في بيعك، وقمت في ليلك وصمت في نهارك، أي فما ربحوا في تجارتهم. وقال الشاعر: ابن كيسان: ويجوز تجارة وتجائر، وضلالة وضلائل. قوله تعالى{وما كانوا مهتدين} في اشترائهم الضلالة. وقيل: في سابق علم الله. والاهتداء ضد الضلال، وقد تقدم. {مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون} قوله تعالى{مثلهم كمثل الذي استوقد نارا} فمثلهم رفع بالابتداء والخبر في الكاف، فهي اسم، كما هي في قول الأعشى: وقول امرئ القيس: أراد مثل الطعن، وبمثل ابن الماء. ويجوز أن يكون الخبر محذوفا، تقديره مثلهم مستقر كمثل، فالكاف على هذا حرف. والمثل والمثل والمثيل واحد ومعناه الشبيه. والمتماثلان: المتشابهان، هكذا قال أهل اللغة. قوله {الذي} يقع للواحد والجمع. قال ابن الشجري هبة الله بن علي: ومن العرب من يأتي بالجمع بلفظ الواحد، كما قال: وقيل في قول الله تعالى أي يجبه. واختلف النحاة في جواب لما، وفي عود الضمير من {نورهم}، فقيل: جواب لما محذوف وهو طفئت، والضمير في {نورهم} على هذا للمنافقين، والإخبار بهذا عن حال تكون في الآخرة، كما قال تعالى قوله{نارا} النار مؤنثة وهي من النور وهو أيضا الإشراق. وهي من الواو، لأنك تقول في التصغير: نويرة، وفي الجمع نور وأنوار ونيران، انقلبت الواو ياء لكسر ما قبلها. قوله تعالى{فلما أضاءت ما حوله} ضاءت وأضاءت لغتان، يقال: ضاء القمر يضوء ضوءا وأضاء يضيء، يكون لازما ومتعديا. وقرأ محمد بن السميقع: ضاءت بغير ألف، والعامة بالألف، قال الشاعر: {ما} زائدة مؤكدة. وقيل: مفعولة بأضاءت. و{حوله} ظرف مكان، والهاء في موضع خفض بإضافته إليها. {ذهب} وأذهب لغتان من الذهاب، وهو زوال الشيء. {وتركهم} أي أبقاهم. {في ظلمات} جمع ظُلْمة. وقرأ الأعمش{ظلْمات} بإسكان اللام على الأصل. ومن قرأها بالضم فللفرق بين الاسم والنعت. وقرأ أشهب العقيلي{ظلَمات} بفتح اللام. قال البصريون: أبدل من الضمة فتحة لأنها أخف. وقال الكسائي{ظلمات} جمع الجمع، جمع ظلم.{ لا يبصرون} فعل. مستقبل في موضع الحال، كأنه قال: غير مبصرين، فلا يجوز الوقف على هذا على {ظلمات}. {صم بكم عمي فهم لا يرجعون} قوله تعالى{صم بكم عمي} صمٌّ أي هم صم، فهو خبر ابتداء مضمر. وفي قراءة عبدالله بن مسعود وحفصة: صماً بكماً عمياً، فيجوز النصب على الذم، كما قال تعالى فنصب {عداة الله} على الذم. فالوقف على {يبصرون} على هذا المذهب صواب حسن. ويجوز أن ينصب صما بـ {تركهم}، كأنه قال: وتركهم صما بكما عميا، فعلى هذا المذهب لا يحسن الوقف على {يبصرون}. والصمم في كلام العرب: الانسداد، يقال: قناة صماء إذا لم تكن مجوفة. وصممت القارورة إذا سددتها. فالأصم: من انسدت خروق مسامعه. والأبكم: الذي لا ينطق ولا يفهم، فإذا فهم فهو الأخرس. وقيل: الأخرس والأبكم واحد. ويقال: رجل أبكم وبكيم، أي أخرس بين الخرس والبكم، قال: والعمى: ذهاب البصر، وقد عمي فهو أعمى، وقوم عمي، وأعماه الله. وتعامى الرجل: أرى ذلك من نفسه. وعمي عليه الأمر إذا التبس، ومنه قوله تعالى وقال آخر: وقال الدارمي: وقال بعضهم في وصاته لرجل يكثر الدخول على الملوك:
ادخل إذا ما دخلت أعمى واخرج إذا ما خرجت أخرس وقال قتادة{صم} عن استماع الحق، {بكم} عن التكلم به، {عمي} عن الإبصار له. قلت: وهذا المعنى هو المراد في وصف النبي صلى الله عليه وسلم ولاة آخر الزمان في حديث جبريل (وإذا رأيت الحفاة العراة الصم البكم ملوك الأرض فذاك من أشراطها). والله أعلم. قوله تعالى{فهم لا يرجعون} أي إلى الحق لسابق علم الله تعالى فيهم. يقال: رجع بنفسه رجوعا، ورَجَعَه غيره، وهذيل تقول: أرجعه غيره. وقوله تعالى {أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت والله محيط بالكافرين} قوله تعالى{أو كصيب من السماء} قال الطبري{أو} بمعنى الواو، وقاله الفراء. وأنشد: وقال آخر: أي وكانت. وقيل{أو} للتخيير أي مثّلوهم بهذا أو بهذا، لا على الاقتصار على أحد الأمرين، والمعنى أو كأصحاب صيب. والصيب: المطر. واشتقاقه من صاب يصوب إذا نزل، قال علقمة: وأصله: صَيوب، اجتمعت الياء والواو وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء وأدغمت، كما فعلوا في ميت وسيد وهين ولين. وقال بعض الكوفيين: أصله صويب على مثال فعيل. قال النحاس{لو كان كما قالوا لما جاز إدغامه، كما لا يجوز إدغام طويل. وجمع صيب صيايب. والتقدير في العربية: مثلهم كمثل الذي استوقد نارا أو كمثل صيب}. قوله تعالى{من السماء} السماء تذكر وتؤنث، وتجمع على أسمية وسموات وسمي، على فُعول، قال العجاج: تلفه الرياح والسُّمِيّ والسماء: كل ما علاك فأظلك، ومنه قيل لسقف البيت: سماء. والسماء: المطر، سمي به لنزوله من السماء. قال حسان بن ثابت: وقال آخر: ويسمى الطين والكلأ أيضا سماء، يقال: ما زلنا نطأ السماء حتى أتيناكم. يريدون الكلأ والطين. ويقال لظهر الفرس أيضا سماء لعلوه، قال: والسماء: ما علا. والأرض: ما سفل، على ما تقدم. قوله تعالى{فيه ظلمات} ابتداء وخبر. {ورعد وبرق} معطوف عليه. وقال: ظلمات بالجمع إشارة إلى ظلمة الليل وظلمة الدَّجْن، وهو الغيم، ومن حيث تتراكب وتتزايد جمعت. وقد مضى ما فيه من اللغات فلا معنى للإعادة، وكذا كل ما تقدم إن شاء الله تعالى. واختلف العلماء في الرعد، وروي عن ابن عباس أنه قال: الرعد ريح تختنق بين السحاب فتصوت ذلك الصوت. واختلفوا في البرق، فروي عن علي وابن مسعود وابن عباس رضوان الله عليهم: البرق مخراق حديد بيد الملك يسوق به السحاب. قلت: وهو الظاهر من حديث الترمذي. وعن ابن عباس أيضا هو سوط من نور بيد الملك يزجر به السحاب. وعنه أيضا البرق ملك يتراءى. وقالت الفلاسفة: الرعد صوت اصطكاك أجرام السحاب. والبرق ما ينقدح من اصطكاكها. وهذا مردود لا يصح به نقل، والله أعلم. ويقال: أصل الرعد من الحركة، ومنه الرعديد للجبان. وارتعد: اضطرب، ومنه الحديث: وأرعد القوم وأبرقوا: أصابهم رعد وبرق. وحكى أبو عبيدة وأبو عمرو: أرعدت السماء وأبرقت، وأرعد الرجل وأبرق إذا تهدد وأوعد، وأنكره الأصمعي. واحتج عليه بقول الكميت: فقال: ليس الكميت بحجة. فائدة: روى ابن عباس قال: كنا مع عمر بن الخطاب في سفرة بين المدينة والشام ومعنا كعب الأحبار، قال: فأصابتنا ريح وأصابنا رعد ومطر شديد وبرد، وفرق الناس. قال فقال لي كعب: إنه من قال حين يسمع الرعد: سبحان من يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته، عوفي مما يكون في ذلك السحاب والبرد والصواعق. قال: فقلتها أنا وكعب، فلما أصبحنا واجتمع الناس قلت لعمر: يا أمير المؤمنين، كأنا كنا في غير ما كان فيه الناس قال: وما ذاك؟ قال: فحدثته حديث كعب. قال: سبحان الله أفلا قلتم لنا فنقول كما قلتم! في رواية فإذا بردة قد أصابت أنف عمر فأثرت به. وستأتي هذه الرواية في سورة الرعد إن شاء الله. ذكر الروايتين أبو بكر بن علي بن ثابت الخطيب في روايات الصحابة عن التابعين رحمة الله عليهم أجمعين. قوله تعالى{يجعلون أصابعهم في آذانهم} جعلهم أصابعهم في آذانهم لئلا يسمعوا القرآن فيؤمنوا به وبمحمد عليه السلام، وذلك عندهم كفر والكفر موت. وفي واحد الأصابع خمس لغات: إصبع بكسر الهمزة وفتح الباء، وأصبع بفتح الهمزة وكسر الباء، ويقال بفتحهما جميعا، وضمهما جميعا، وبكسرهما جميعا، ومؤنثة. وكذلك الأذن وتخفف وتثقل وتصغر، فيقال: أذينة. ولو سميت بها رجلا ثم صغرته قلت: أذين، فلم تؤنث لزوال التأنيث عنه بالنقل إلى المذكر فأما قولهم: أذينة في الاسم العلم فإنما سمي به مصغرا، والجمع آذان. وتقول: أذنته إذا ضربت أذنه. ورجل أذُن: إذا كان يسمع كلام كل أحد، يستوي فيه الواحد والجمع. وأذاني: عظيم الأذنين. ونعجة أذناء، وكبش آذن. وأذّنت النعل وغيرها تأذينا: إذا جعلت لها أذنا. وأذنت الصبي: عركت أذنه. قوله تعالى{من الصواعق} أي من أجل الصواعق. والصواعق جمع صاعقة. قال ابن عباس ومجاهد وغيرهما: إذا اشتد غضب الرعد الذي هو الملك طار النار من فيه وهي الصواعق. وكذا قال الخليل، قال: هي الواقعة الشديدة من صوت الرعد، يكون معها أحيانا قطعة نار تحرق ما أتت عليه. وقال أبو زيد: الصاعقة نار تسقط من السماء في رعد شديد. وحكى الخليل عن قوم: الساعقة بالسين. وقال أبو بكر النقاش: يقال صاعقة وصعقة وصاقعة بمعنى واحد. وقرأ الحسن: من {الصواقع} بتقديم القاف، ومنه قول أبي النجم: قال النحاس: وهي لغة تميم وبعض بني ربيعة. ويقال: صعقتهم السماء إذا ألقت عليهم. الصاعقة. والصاعقة أيضا صيحة العذاب، قال الله عز وجل وقوله تعالى قوله{حذر الموت} حذر وحذار بمعنى، وقرئ بهما. قال سيبويه: هو منصوب، لأنه موقوع له أي مفعول من أجله، وحقيقته أنه مصدر، وأنشد سيبويه: وقال الفراء: هو منصوب على التمييز والموت: ضد الحياة. وقد مات يموت، ويمات أيضا، قال الراجز: فهو ميت وميت، وقوم موتى وأموات وميتون وميتون. والموات بالضم الموت. والموات بالفتح ما لا روح فيه. والموات أيضا: الأرض التي لا مالك لها من الآدميين ولا ينتفع بها أحد. والمَوَتان بالتحريك خلاف الحيوان، يقال: اشتر الموتان، ولا تشتر الحيوان، أي اشتر الأرضين والدور، ولا تشتر الرقيق والدواب. والمُوتان بالضم موت يقع في الماشية، يقال: وقع في المال موتان. وأماته الله وموته، شدد للمبالغة. وقال: وأماتت الناقة إذا مات ولدها، فهي مميت ومميتة. قال أبو عبيد: وكذلك المرأة، وجمعها مماويت. قال ابن السكيت: أمات فلان إذا مات له ابن أو بنون. والمتماوت من صفة الناسك المرائي. وموت مائت، كقولك: ليل لائل، يؤخذ من لفظه ما يؤكد به. والمستميت للأمر: المسترسل له، قال رؤبة: المستميت أيضا: المستقتل الذي لا يبالي في الحرب من الموت، قوله تعالى{والله محيط بالكافرين} ابتداء وخبر، أي لا يفوتونه. يقال: أحاط السلطان بفلان إذا أخذه أخذا حاصرا من كل جهة، قال الشاعر: ومنه قوله تعالى {يكاد البرق يخطف أبصارهم كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم إن الله على كل شيء قدير} قوله تعالى{يكاد البرق يخطف أبصارهم} يكاد معناه يقارب، يقال: كاد يفعل كذا إذا قارب ولم يفعل. ويجوز في غير القرآن: يكاد أن يفعل، كما قال رؤبة: مشتق من المصح وهو الدرس. والأجود أن تكون بغير {أن}، لأنها لمقاربة الحال، و{أن} تصرف الكلام إلى الاستقبال، وهذا متناف، قال الله عز وجل قوله تعالى{يخطف أبصارهم} الخطف: الأخذ بسرعة، ومنه سمي الطير خطافا لسرعته. فمن جعل القرآن مثلا للتخويف فالمعنى أن خوفهم مما ينزل بهم يكاد يذهب أبصارهم. ومن جعله مثلا للبيان الذي في القرآن فالمعنى أنهم جاءهم من البيان ما بهرهم. ويخْطَف ويخْطِف لغتان قرئ بهما. وقد خطفه بالكسر يخطفه خطفا، وهي اللغة الجيدة، واللغة الأخرى حكاها الأخفش: خطف يخطف. الجوهري: وهي قليلة رديئة لا تكاد تعرف. وقد قرأ بها يونس في قوله تعالى {يكاد البرق يخطف أبصارهم} وقال النحاس: في {يخطف} سبعة أوجه، القراءة الفصيحة: يخطَف. وقرأ علي بن الحسين ويحيى بن وثاب: يخطف بكسر الطاء، قال سعيد الأخفش: هي لغة. وقرأ الحسن وقتادة وعاصم الجحدري وأبو رجاء العطاردي بفتح الياء وكسر الخاء والطاء. وروي عن الحسن أيضا أنه قرأ بفتح الخاء. قال الفراء: وقرأ بعض أهل المدينة بإسكان الخاء وتشديد الطاء. قال الكسائي والأخفش والفراء: يجوز {يخطف} بكسر الياء والخاء والطاء. فهذه ستة أوجه موافقة للخط. والسابعة حكاها عبدالوارث قال: رأيت في مصحف أبي بن كعب {يتخطف}، وزعم سيبويه والكسائي أن من قرأ {يخطف} بكسر الخاء والطاء فالأصل عنده يختطف، ثم أدغم التاء في الطاء فالتقى ساكنان فكسرت الخاء لالتقاء الساكنين. قال سيبويه: ومن فتح الخاء ألقى حركة التاء عليها. وقال الكسائي: ومن كسر الياء فلأن الألف في اختطف مكسورة. فأما ما حكاه الفراء عن أهل المدينة من إسكان الخاء والإدغام فلا يعرف ولا يجوز، لأنه جمع بين ساكنين. قال النحاس وغيره. قلت: وروي عن الحسن أيضا وأبي رجاء {يخِطَّف}. قال ابن مجاهد: وأظنه غلطا، واستدل على ذلك بأن {خطِف الخطفة} لم يقرأه أحد بالفتح. {أبصارهم} جمع بصر، وهي حاسة الرؤية. والمعنى: تكاد حجج القرآن وبراهينه الساطعة تبهرهم. ومن جعل {البرق} مثلا للتخويف فالمعنى أن خوفهم مما ينزل بهم يكاد يذهب أبصارهم. قوله تعالى{كلما أضاء لهم مشوا فيه} {كلما} منصوب لأنه ظرف. وإذا كان {كلما} بمعنى {إذا} فهي موصولة والعامل فيه {مشوا} وهو جوابه، ولا يعمل فيه {أضاء}، لأنه في صلة ما. والمفعول في قول المبرد محذوف، التقدير عنده: كلما أضاء لهم البرق الطريق. وقيل: يجوز أن يكون فعل وأفعل بمعنى، كسكت وأسكت، فيكون أضاء وضاء سراء فلا يحتاج إلى تقدير حذف مفعول. قال الفراء: يقال ضاء وأضاء، وقد تقدم. والمعنى أنهم كلما سمعوا القرآن وظهرت لهم الحجج أنسوا ومشوا معه، فإذا نزل من القرآن ما يعمون فيه ويضلون به أو يكلفونه {قاموا} أي ثبتوا على نفاقهم، عن ابن عباس. وقيل: المعنى كلما صلحت أحوالهم في زروعهم ومواشيهم وتوالت النعم قالوا: دين محمد دين مبارك، وإذا نزلت بهم مصيبة وأصابتهم شدة سخطوا وثبتوا في نفاقهم، عن ابن مسعود وقتادة. قال النحاس: وهذا قول حسن، ويدل على صحته قوله تعالى{ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم} {لو} حرف تمن وفيه معنى الجزاء، وجوابه اللام. والمعنى: ولو شاء الله لأطلع المؤمنين عليهم فذهب منهم عز الإسلام بالاستيلاء عليهم وقتلهم وإخراجهم من بينهم. وخص السمع والبصر لتقدم ذكرهما في الآية أولا، أو لأنهما أشرف ما في الإنسان. وقرئ {بأسماعهم} على الجمع، وقد تقدم الكلام في هذا. قوله تعالى{إن الله على كل شيء قدير} عموم، ومعناه عند المتكلمين فيما يجوز وصفه تعالى بالقدرة عليه. وأجمعت الأمة على تسمية الله تعالى بالقدير، فهو سبحانه قدير قادر مقتدر. والقدير أبلغ في الوصف من القادر، قاله الزجاجي. وقال الهروي: والقدير والقادر بمعنى واحد، يقال: قدرت على الشيء أقدر قدْرا وقدَرا ومقْدِرة ومقْدُرة وقدرانا، أي قدرة. والاقتدار على الشيء: القدرة عليه. فالله جل وعز قادر مقتدر قدير على كل ممكن يقبل الوجود والعدم. فيجب على كل مكلف أن يعلم أن الله تعالى قادر، له قدرة بها فعل ويفعل ما يشاء على وفق علمه واختياره. ويجب عليه أيضا أن يعلم أن للعبد قدرة يكتسب بها ما أقدره الله تعالى عليه على مجرى العادة، وأنه غير مستبد بقدرته. وإنما خص هنا تعالى صفته التي هي القدرة بالذكر دون غيرها، لأنه تقدم ذكر فعل مضمنه الوعيد والإخافة، فكان ذكر القدرة مناسبا لذلك. والله أعلم. فهذه عشرون آية على عدد الكوفيين، أربع آيات في وصف المؤمنين، ثم تليها آيتان في ذكر الكافرين، وبقيتها في المنافقين. وقد تقدمت الرواية فيها عن ابن جريج، وقاله مجاهد أيضا.
|